حمل التطبيق
تسوق على الانترنت

التعليم العالي - دكتور شتيوي عبدالله
د.أ
غدا |8 ساعة 32 دقيقة
ربما لا توجد خدمة تقدمها الحكومات لشعوبها أفضل من خدمة التعليم. هذه الخدمة التي تتمثل ببناء المدارس والمعاهد والجامعات وإعداد المدرسين والأساتذة الجامعيين، وتزويد مؤسسات التعليم باحتياجاتها من الأجهزة ووسائل التعلم، هي التي تشكل القوة الأساسية لبناء المجتمعات بصورة صحيحة وتشكّل تكيفها لمتطلبات العصر. فالمتعلم “بصورة جيدة” يمكن أن يكون عسكرياً ناجحاً يدافع عن الوطن، ويمكن أن يكون طبيباً يسعى للحفاظ على صحة المواطن. ليس هذا فحسب، بل إن المتعلم “الجيد” لديه دوماً الشجاعة بأن لا يخشى أن يبدي رأياً مختلفاً أو أن يَظهر بصورة مختلفة سواءً أكان ذلك في الملبس أو في العادات والتقاليد، لكنه يحترم الآخرين ويتفهم الثقافات الأخرى المختلفة.
في هذا الكتاب، يخوض المؤلف في موضوع واسع، يكثر المتحدثون فيه وتتشعب الآراء إلى درجة التضارب التام. بعض الخائضين في هذا الحقل لم يمارسوا يوماً التعليم الجامعي، بل إن بعضهم لا يحمل درجة جامعية، لكن الأمر يعنيهم جميعاً إذ أنهم شركاء (Stakeholders) في التعليم العالي إما لأن أبناءهم يدرسون في الجامعات أو لأنهم كأرباب عمل يعتمدون على خريجي الجامعات في مساعدتهم في ورشهم وأماكن أعمالهم.
الشركاء في التعليم العالي لا يقتصرون على هاتين الفئتين، فالطلبة أنفسهم لديهم رؤيتهم الخاصة في قاعات التدريس وساحات الجامعة ومرافقها ولديهم تحفظاتهم على بعض المدرسين وعلى القرارات التي تتخذها إدارة الجامعة عند تطبيقها أنظمة الجامعة بحق الطلبة المتأخرين دراسياً أو الذين يبدون سلوكاً غير مقبول. كما أن المشرعين والبرلمانيين يغازلون الناخبين على حساب الجامعات في كل أمر، فهم يرون أن الرسوم مرتفعة، وأن طرق القبول غير عادلة، وأن مواقف السيارات غير كافية أحياناً. والأمر نفسه يمارسه السياسيون من غير البرلمانيين، فهم يمارسون ضغوطاً كثيرةً على رئيس الجامعة لتعيين العمداء والإدارات المختلفة ولترقية الأساتذة والإداريين وللتجاوز عن أخطاء الطلبة والعاملين. أما الإعلاميون، فهم لا يرغبون في نقل أخبار الجامعة الإيجابية أن لم تلبى رغباتهم، بل ويتصيدون أخطاء إدارة الجامعة ويضخمونها، حتى وإن لم تكن كذلك، إذ أنهم يتحدثون عن راتب رئيس الجامعة الضخم ورواتب معاونيه، وعن سفر الرئيس المتكرر، كما ويتحدثون عن الكوادر الإدارية الكبيرة التي تستنزف موارد الجامعة دون مبرر. هذا الأمر ليس مقصوراً على الأردن أو على بلدٍ بعينه، بل إنه سمة العصر في كل بلد، ففي الولايات المتحدة تنادى عدد من رؤساء الجامعات عام 2000 نتيجة لتدخل الشركاء في قراراتهم المتعلقة بالجامعات ووجدوا أن الجامعات تواجه محنةً، وعليها إما أن تكيف قراراتها لمتطلبات المرحلة أو أنها سيعفو عليها الزمن وتستبدل بشكل آخر من أشكال التعليم العالي.
وقد دفعتني كتابة هذا الكتاب إلى الخوض في جوانب متعددة في التعليم العالي بعضها لدي قصور كبير في الإلمام بجوانبه المختلفة، بل لم يكن لدي خبرة مباشرة فيه، الأمر الذي حفزني للقيام بكثير من البحث في تلك الحقول للوقوف على الصورة الشمولية لها. لقد قمت بقراءة الكثير من الأعمال العظيمة التي كتبها قادة التعليم العالي في الولايات المتحدة وفي بلدان أخرى، وإلى تتبع طرق صنع القرارات الهامة الخاصة بالتعليم العالي في الصين أوفي اليابان أو في الولايات المتحدة، مثل مداولات لجنة سبيلنغز، وزيرة التعليم في الولايات المتحدة، وكيف أن معالجة أمر ما قد تؤدي أحياناً إلى انحراف الأمور إلى اتجاه خاطئ آخر مما يجعل القائمين على الأمر يلجأون إلى حلول متوازنة. فحتى قبل أن يضرب الركود الاقتصادي عام 2008 ظهرت دعوات تدعو الجامعات للاعتماد على الذات ولتسويق نفسها باستخدام التعليم عن بعد أو باستخدام المساقات الضخمة المفتوحة على الخط (Massive, open, on line courses - MOOC’s) لاجتذاب أكبر عدد ممكن من الطلاب و”لتمويل الجامعات“. لكنه بالمقابل ظهرت دعوات قوية للتركيز على التعليم وعدم النظر إلى الجامعة على أنها مؤسسة أعمال تسعى إلى جلب الربح والأموال. فهاهو أحد عمداء جامعة هارفارد هاري لويس يكتب كتاباً عنوانه “التميز دون روح: كيف تنسى جامعة عظيمة التعليم” (Excellence Without a Soul: How a Great University Forget Education) ويقول في مقدمته: ”تسمع في الجامعة عن البرومايد أكثر مما تسمع عن قوة الشخصية للطالب والنزاهة واللطف والتعاون والرحمة وكيف يمكن أن تغادر العالم وقد أصبح مكاناً أفضل مما وجدته عليه“. ويضيف مقترحاً الحل: ”يتطلب تغيير الاتجاه قيادة ترى الجامعة شيئاً أكثر من مجرد مؤسسة أعمال، وشيئاً أكثر من مجرد خادم لمنطق التنافس الاقتصادي“.
وأشد ما لفت انتباهي أثناء قراءتي لهذه الكتب وغيرها من المقالات والنشرات العلمية توافر الكم الهائل من التفاصيل المتعلقة بكافة نواحي التعليم العالي في مختلف بلدان العالم المتقدم. فهذا كتاب عنوانه ”عامل الهيئة التدريسية“ (The Faculty Factor) لمؤلفيه مارتن فنكلستاين وفاليري كونلي وجاك شوستر، وهم أساتذة في جامعات أمريكية مرموقة، يتناول شؤون أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الأمريكية وما طرأ عليها من تطور، واتجاهات هذا التطور، ويدرج 100 جدول و 72 شكلاً في كتاب مؤلف من 556 صفحة. بالمقابل فإن ما يتعلق بالتعليم العالي في البلدان العربية، ومنها الأردن، هو قليل بل ونادر. وإن وجد، فإنه شكلي وخالٍ من الروح ولا يتعدى جداول موجودة على موقع وزارة أو جامعة وتتضارب أحياناً بصورة كبيرة، وتكاد بسهولة أن تكتشف أين ارتكبت الأخطاء فيها، كما أن المُدد الزمنية التي تغطيها هي قصيرة ومتقطعة وفي كل عام تتجدد الجداول بنمطٍ مختلف لا يسمح بإمكانية المقارنة واستنباط استنتاجات أو الوصول إلى توصيات، ربما لأن الموظفين القائمين على هذه الإحصائيات هم ليسوا باحثين أكاديميين وإنما موظفون عامون كلفوا بهذه المهمة ويريدون أن ينجزوها بأقل جهدٍ ممكن. لقد كان أصعب جزء في الكتاب الذي بين أيديكم الحصول على المعلومات المتعلقة بشؤون التعليم العالي في الأردن والبلدان العربية، وحتى عندما كنت ألجأ إلى الاتصال الشخصي بالقائمين على بعض شؤون التعليم العالي كان يُنظر إلى الاتصال على أنه شكل من أشكال “التجسس“ على الجامعة أو المؤسسة وتجد إجابة مقتضبة تذهب بك بعيداً عن الهدف الذي تسعى إليه. فهل من المعقول مثلاً أن عدد المحاضرين غير المتفرغين في الجامعات الأردنية الرسمية والخاصة هو 55 محاضراً فقط؟! إن هذا ما تقوله الإحصاءات الرسمية لموقع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، أما الجامعات فإنها لا تذكر هذا الأمر على مواقعها الرسمية لأنهم ببساطة لا يعتبرون ”أعضاء هيئة تدريس“. ولهذا فإن هذه دعوة إلى زملائنا في كليات العلوم التربوية وفي غيرها من الكليات من المهتمين بشؤون التعليم العالي أن يبادروا إلى إجراء دراسات علمية رصينة حول كافة مناحي التعليم العالي وتوثيقها ونشرها على الملأ بلغات متعددة لكي يتم استخدامها من قبل الباحثين الذين يقومون بدراسات شمولية حول واقع التعليم العالي في العالم.
أخيراً، فإنني أعرف أن هذا الكتاب هو محاولة متواضعة لوضع قضايا التعليم المعاصرة بصورة مبسطة وبلغة ميسرة أمام أساتذة جامعاتنا وإدارييها وأمام القائمين على شؤون التعليم العالي دون إطناب أو مبالغة. كما أنني أعرف أن كثيراً من القضايا التي عولجت لا تزال بعيدة عن الكمال وربما تكون معلوماتها ليست الأكثر حداثة. لهذا فإنني أضعه أمام الباحثين والنقاد ليقترحوا عليَّ ما يرونه مناسبا من حذف أو تعديل أو إضافة، فلن نتقدم ما لم نستمع إلى النقد ونتقبله.